حُكمُ و مَشْرُوعيّةُ تَعجِيلِ إخراجِ الزّكاة
حُكمُ و مَشْرُوعيّةُ تَعجِيلِ إخراجِ الزّكاة
لحمد لله رب العالمين و الصّلاة و السّلام على أشرف الأنبياء و إمام المُرسلين سيّدنا و قُدوتنا مُحمّد صلوات الله و سلامه عليه و على آله و صحبه الطّهَرَةِ الأخيار و عن التّابعين و من سار على دربِهم إلى يوم القرار، أمّا بعد، فإن من خصال المسلمين و صفاتهم أنهم يسارعون في الخيرات دوما في الحال السراء، ولا شك أن مسارعتهم في الخيرات في الأزمات والشدائد والبلايا هو أولى، خاصة في إخراج الزكاة وتعجيلها، والتصدق على المحتاجين، وذلك مما يظهر قوة المجتمع المسلم، ويحقق التكافل الاجتماعي بين المسلمين، وهو من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، ومن تتبع الأحكام الشرعية والفروع الفقهية التي تنظم علاقة المسلمين فيما بينهم أدرك أن (التكافل الاجتماعي) من أهم مقاصد الشريعة، ولا شك أنه يحصل بتعجيل إخراج الزكاة الواجبة، خاصة في مثل هذه الظروف التي تعيشها بلادنا الإسلامية و البشريّة جمعاء جرّاء هذه النّازلة و هذه الجائحة، ففي ظل ما يعانيه الناس الآن من سوء الأحوال الاقتصادية، وتأثير فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي، وحظر كثير من دول العالم التجول والخروج، وإيقاف الأشغال والأعمال إلا الضرورية، كالخدمات الصحية، أو الخدمات التي تتعلق بالطعام والشراب، أصاب كثير من الناس كساد عظيم، خاصة الذين يعملون في القطاع الخاص أو القطاع الأهلي، فلا يأخذون رواتب لهم، وليس عندهم دخل في الغالب، وكذلك العمالة المؤقتة من أصحاب الحرف والمهن، مما دعا الكثير إلى التفكير في تعجيل إخراج زكاة المال لهم في هذه الظروف، و تبعًا لهذا فإنّهُ يجوز تعجيل إخراج زكاة المال عن وقته، متى وجد سبب وجوب الزكاة الذي هو النصاب الكامل وهو مذهب جمهور الفقهاء، قال به الحسن البصري، وسعيد بن جبير، والزهري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وقال الكاساني في بدائع الصنائع، ج2/50: ” وأما حولان الحول، فليس من شرائط أداء الزكاة عند عامة العلماء، وعند مالك من شرائط الجواز، فيجوز تعجيل الزكاة عند عامة العلماء خلافا لمالك”.
قال في الدر المختار مع حاشيته، ج2/27: ” ولو عجل ذو نصاب زكاة لسنتين أو لنصب صح؛ لوجود السبب”.
وفي حاشية الخلوتي على منتهى الإرادات (2/ 171) : “ويُجزِئ تعجيلها لحولَين فقط إذا كَمُل النصاب”.
وقال المارودي في الحاوي الكبير (3/ 174): ” تعجيل الزكاة يجزئ إذا كان أحد سببي وجوبها موجودا وهو النصاب”.
وقال الغزالي في الوسيط في المذهب (2/ 446): ” ويجوز تعجيل الزكاة قبل تمام الحول خلافا لمالك”.
ونقل النووي عن الشيرازي قوله في المجموع شرح المهذب (6/ 144): ” كل مال وجبت فيه الزكاة بالحول والنصاب لم يجز تقديم زكاته قبل أن يملك النصاب لأنه لم يوجد سبب وجوبها فلم يجز تقديمها كأداء الثمن قبل البيع والدية قبل القتل وان ملك النصاب جاز تقديم زكاته قبل الحول”.
واستدل الجمهور على جواز تعجيل الزكاة بما يلي:
1 – ما أخرجه أبو داود عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: «أن العباس سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في تعجيل زكاته، قبل أن يحول الحول، مسارعة إلى الخير، فأذن له في ذلك» . أخرجه أبو داود، والترمذي.
2 – وفي أخرى للترمذي أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال لعمر: «إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام[2].
3- ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: «أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد، وعباس بن عبد المطلب، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله، وأما خالد: فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، والعباس بن عبد المطلب، عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: فهي عليه صدقة، ومثلها معها» . وفي رواية: «هي علي، ومثلها معها» . هذه رواية البخاري.
قال ابن الأثير في جامع الأصول (4/ 572):
” قيل: معنى قوله – صلى الله عليه وسلم- في حق العباس: «فهي علي ومثلها معها» أنه أخرها عنه عامين؛ إذ قد ورد في حديث آخر: «إنا تسلفنا من العباس صدقة عامين» أي تعجلنا، ومعناه: أنه أوجبها عليه وضمنه إياها ولم يقبضها، وكانت دينا على العباس، ولهذا قال: إنها عليه ومثلها معها؛ لأنه رأى به حاجة إلى ذلك، وقيل: بل أخذ منه صدقة عامين قبل الوجوب استسلافا؛ لأنه قد ورد في إحدى الروايات: «فإنها علي ومثلها معها» .
4- أنه مال وجد سبب وجوبه قبل وجوبه، فجاز إخراجه.
5- القياس على جواز تعجيل قضاء الدين قبل حلول الأجل، وأداء كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث، وكفارة القتل بعد الجرح قبل الزهوق.
6- أن مالكا – رحمه الله- وإن لم يجز تعجيل الزكاة قبل حلولها، فإنه أجاز تعجيل الكفارة قبل الحنث، وهو تقديم للعبادة على شرطها.
7- أن اشتراط الوقت لا يمنع من تعجيل العبادة مالم تكن عبادة محضة يشترط فيها الوقت كالصلاة والصيام، وذلك أن الوقت إذا دخل في الشيء رفقا بالإنسان، كان له أن يعجله ويترك الإرفاق بنفسه، مثل تعجيل أداء الدين المؤجل، فإنه يجوز أداؤه قبل وقته، وكأداء زكاة المال الغائب، وإن لم يكن على يقين من رده إليه، أما الصلاة الزكاة فالتوقيت فيهما غير معقول المعنى، فيجب أن يقتصر عليه، ويتوقف فيه »
ثم إن كان جمهور الفقهاء يجيزون تعجيل إخراج الزكاة في الأحوال العادية الناس في دعة وراحة، فإن القول بالجواز أولى في الجوائح والمكاره والنوازل، فمن تتبع أحكام الشريعة أدرك أن أحكام الإكراه والأعذار تختلف عن الأحوال العادية، فلا ينبغي أن يكون القول بجواز تعجيل إخراج زكاة المال في الحوائج والمصائب – كفيروس كورونا وغيره- محل خلاف بين الفقهاء، فلو لم يجز بالأدلة – وهو جائز- لجاز للضرورة والحاجة.
كما أن تعجيل إخراج الزكاة عن وقتها، فهو داخل في عموم المسارعة في الخيرات، بل من عجيب القرآن أنه لما امتدح المسارعين في الخيرات، كان أول وصف لهم هو الإسراع في إنفاق المال على المحتاجين، ويدخل فيه تعجيل إخراج الزكاة، قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 133، 134]، وقوله سبحانه وتعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
وقد جعل الله سبحانه وتعالى المسارعة في الخيرات- ومنها تعجيل إخراج الزكاة- من علامات الصلاح، قال الله جلا في علاه: {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114]، ومن ذلك قول الله تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]، وقوله سبحانه وتعالى: {نَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] بل جاء الحث على فعل الخيرات والتسابق إليها بصيغة الأمر الذي يدل – في عمومه وأصله على الاستحباب، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقوله جلا في علاه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [المائدة: 48].
كما أنه يدخل في عموم حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على المسارعة في الخيرات، كما في حديث الترمذي والنسائي، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: “بادروا بالأعمال سبعا: هل تنظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، والدجال؟ والدجال شر غائب ينتظر، والساعة؟ والساعة أدهى وأمر، ثم قال: ألا وأكثروا من ذكر هادم اللذات”.
اللهم ما كان من صواب فمنك وحدك و ما كان من خطئٍ فمنّي و من الشيطان و الله و رسوله و المؤمنون منه برآء، هذا و بالله التوفيق و الله تعالى أعلى و أعلم
أخوكم و حبيبكم في الله
الأستاذ اكورام بوبكر